هذه التدوينة هي وقفة عند الرجولة المفرطة في مدينة القدس، كجزء من فهم إفرازات الاستعمار واحتمالات الموت المستمرّ في ظلّه.
التدوينة الأولى في هذه المساحة -إن كان فيها ثانية أو ثالثة- عن القدس، خير انطلاقة وحسن بداية. في مسار التفكير والخوف من إطلاق هذه المدوّنة، حضر سؤال: بماذا أبدأ؟ أريد أن أقول الكثير، لكن بماذا أبدأ؟ وكانت الإجابة واضحة وقاطعة: القدس. هي البداية ومسك ختام، في هذه المدوّنة وكما أتمنّى أن تكون في حياتي.
تتفلّت منّي الأفكار في هذه التدوينة من موضوعها الرئيسي؛ مبنى وتشكيل الرجولة في المدينة، لأن تكون ابتهالات وابتذالات في حبّها؛ المدينة الغنية والساحرة والمريضة، أجمل مدينة في العالم. عشت خارج القدس في حياتي ثلاث سنوات، في مكان يبعد عنها 20 كيلومتر، وبالتالي لا أعرف فعلًا ما معنى العيش في مدن أخرى. المدن الأخرى التي زرتها في العالم لا تتجاوز أصابع الكفّ الواحد ولأيّام لا تتجاوز أصابع الكفّ الآخر. مع ذلك، أنا على يقين بأنها أجمل مدينة في العالم.
القدس مدينة جميلة موضوعيًا، جميلة من ناحية تضاريس وعمارة وطبيعة، وهذا أمر يصعب الاختلاف عليه. إلّا أنّ البعد الآخر الأكثر أهميّة هو العلاقة التي يشكّلها المرء مع المدينة، وتحديدًا منّا نحن، أولادها، أو من يسكن فيها فترات طويلة. علاقة تعلّق ودَهشة أقرب للمرضيّة، ترتبط على الأغلب بالتجربة اليوميّة المركّبة جدًا للعيش فيها. القدس مدينة متطرّفة بكلّ ما فيها، وتجبرك على تشكيل مشاعر متطرّفة تجاهها، فهناك من يحبّها حدّ الجنون وهناك من لا يطيق العيش فيها، وهناك الكثيرون، منهم أنا، أحبّها حدّ الجنون ولا أطيق العيش فيها.
أصررتُ في الفترة الأخيرة إطلاق هذه المساحة ما قبل حزيران، بصفته “شهر الفخر” الفضيل الذي يعجّ بالأكشن في كلّ عام منذ سنوات، ويتفجّر عنفًا وصراخًا، فنعيش ثلاثين يومًا من الرعب في كلّ عام فيه. في حالة ضغط وتوتّر كبيرين، لكنّني آمر نفسي بالمضيّ قدمًا، حتّى أدركت أن هناك ما سيصعّب المهمّة أكثر: تصادف ما قبل حزيران، أي هذه الفترة، بالغليان السنوي المألوف، والذي تنطلق شرارته من القدس وتصل الأرض المستعمرة كلّها، لذكرى “يوم توحيد القدس” للمستعمرين، ويوم استعمار ما تبقّى منها بالنسبة لنا.
أتمزّق قلقًا في الأسابيع الأخيرة؛ قلق من إطلاق مساحة للتدوين والمشاركة لطالما أردتها: عمَّ سأكتب؟ كيف سأبدأ؟ ماذا لو تلاشى بعض السواد وانكشفت هويّتي وفتحت عليّ بابًا من الجحيم؟ هل فعلًا يمكن أن أكتب عمّا أريد؟ هل سيقرأ أحد أو يكترث فعلًا؟
وقلق آخر متوازٍ من تصاعد الأحداث حول الموعد السنوي المتفجّر في “يوم القدس”: كيف ستؤثّر جولة “ثأر الأحرار” على حسابات المستعمرين؟ هل ستمرّ من باب العمود؟ هل سننزل إلى الشوارع؟ كم سيبقى من سماء مدينتنا غير مغطّى بمسيل الدموع والمياه العادمة والرصاص الحيّ والمطاط؟
أرقب التحليلات والقراءات. أكتب وأمحو. أخاف ممّا سيحدث في اليوم القريب في الشارع، وأخاف من عواقب التدوين حول القدس. أؤجّل وألغي وأكتب من جديد، والقلق هو المسيطر.
لا أستطيع الرجوع لأول مرة وعيت بها على أحداث هذا اليوم. ذكريات مبعثرة تحضر فيها صور خيول المستعمرين والمياه العادمة والهرب والهتاف. الذاكرتيْنِ الأقرب والأوضح هما في العامين الأخيرين: في خضمّ هبّة 2021، في شارع السلطان سليمان، على بعد أمتار من باب العمود، أطلقت الغرفة المشتركة صواريخها نصرةً للمدينة، أطلق المستعمرون صافرات الإنذار. سمعناها في الشوارع فطغت على الخوف والحرقة والغضب. انقلب المشهد لاحتفال كبير، فرحة غامرة تملأ الشوارع، المئات من الشباب كأطفال صغار نركض ونقفز ونصرخ “تحيّة للكتائب، عزّ الدين”.
في عام 2022، الأكثر مأساويّة وعنفًا، في خضمّ جوّ عارم من الكآبة والإحباط العام بعد سلسلة من الهزائم والانكسارات منذ الهبّة في العام الذي سبق، مُحاصرونَ بين شارعيْ صلاح الدين والزهراء، مُحاطونَ بالخيل والدوريّات وكتائب المشاة، وتحت مرمى الرصاص الحيّ باتّجاه السماء والمطّاط باتجاهنا، يقترب منّي شابّ من فحول المدينة ومن يُعتَبَروا فلسطينيًا وعربيًا من أشاوسها، من مقهوريها وقاهريني فيها، من رجال المدينة المخيفين؛ يأمرني بهدوء أن أغادر، لأنّه يستطيع، لأنّه الأقوى والأشرس. أغادر فورًا وبهدوء ورعب وانكسار.
في 2023، في اليومين الأخيرين، المدينة ميّتة تمامًا، تمامًا كأهلها. دعوات باهتة للتجمّع ومواجهة مسيرة المستعمرين، وقلّة قليلة منّا موزّعين/مُحاصَرين في أزقّة البلدة القديمة والشوارع المحيطة خارجها، وأنا لستُ منهم كنتيجة للرعب من غزاة المدينة ورجالها.
هذه المدينة مليئة بالموت، يزرعها الاستعمار موتًا يوميًا، وكل مرّة تطأ فيها قدماك أرضها ترتفع احتماليّة موتك تلقائيًا، سواء من غزاتها إن كانت ملامحك عربيّة بما يكفي، أو من مقهوريها إن كان شكلك مرفوض بما بكفي. أترقّب الموت في كلّ لحظة في القدس، وأستشعره قادمًا في كل زاوية.