تخطى إلى المحتوى
Home » الطنط الأسود #4: متراس والمثلية وزمن الخيانة

الطنط الأسود #4: متراس والمثلية وزمن الخيانة

هذه التدوينة هي محاولةٌ لمَركزة المسارات الشخصيّة ضمن أحداثٍ سياسيّة أو نقاشات عامّة ومفتوحة من خلال استخدام مثال التحوّل مع موقع “متراس” العام الماضي.

سياق سريع للتدوينة: نشر موقع “متراس” في مثل هذه الأيام من العام الماضي مقالًا بعنوان “في زمن الترويج للمثلية: كلامٌ يجب قوله”، يهاجم فيه ما يسمّيه “الحراك المثلي” في فلسطين ويتبرّأ من مجموعة مقالات نشرها سابقًا بالتعاون مع مؤسسة القوس التي كانت تعمل على قضايا الهويّة الجندريّة والميول الجنسيّة. جاء المقال كإعلان تغيير سياسات وهويّة الموقع، بعد سنوات من نشر مقالات حول قضايا نسويّة، وتشكيل مجتمع من الكتّاب والجمهور من خلفيّات علمانيّة أو يساريّة أو نسويّة. لاقى نشر المقال بلبلة وأفرز ردّتيّ فعل حادّتين؛ الأولى احتفاء وامتنان لنشر المقال، وأخرى غضب ودعوات لمقاطعة المنصّة، تحديدًا من كتّاب سابقين في الموقع أصدروا بيانًا يطالب الموقع بسحب مقالاتهم.

بعد نشر المقال، وضمن هيزعة منشورات الإعلام الاجتماعي حوله، نشرَ أحد الكتّاب الّذين كانوا جزءًا من فريق متراس منشورًا أنهاه بهذه الجملة: “حزين على كيف ممكن ينحدر الإنسان، أي إنسان، بهاي السهولة لأسوأ نوع خيانة: خيانة الأمانة الفكريّة”. بصراحة لا أعرف ما هي “الأمانة الفكريّة” ولا أعرف كيف لأحد أن يصونها، ما يهمّني ويحزنني هو خيانة العشرة والصداقة والرفاقيّة، وهو ما فعله فريق متراس بنشر هذا المقال.

التغيير شيء مثير للاهتمام، بل وحتمي في حياتنا. من الجميل أن نرى مؤسسات أو أحزاب أو مجموعات تتغيّر وتأخذ مسارات أخرى، وهذا طبيعيّ ويحدث غالبًا دون قرار معيّن أو في لحظة زمنية واحدة. كان يمكن أن يكون من الجميل أن نشاهد تغيّر سياسات وتوجّه إيديولوجي لمنصّة إعلاميّة مؤثّرة من توجّهات علمانيّة أو نسويّة إلى أخرى محافظة أو إسلامية. لا أوافق الأوصاف التهكميّة والاتّهاميّة التي كتبت وقيلت عند نشر المقال العام الماضي، وتفسير الخطوة على أنّها بالضرورة بإيعاز من أحد مموّلي الموقع الإسلاميين (وهو وارد جدًا، لكنّه برأيي ليس موضوع الخلاف/ الغضب/ الألم أيضًا).

الأزمة في ما حدث مع “متراس” بالنسبة لي هو المسارات الشخصية التي تمّ تجاهلها في النقاش حول هذه الخطوة، وهو ما أحاول الإشارة إليه والتعلّم منه عبر هذه التدوينة. كنتُ وكثيرون غيري من الرّفاق والأصدقاء قريبينَ من مسارِ نشأة “متراس”، شهدنا ولادته ونموّه وتطوّره وكنّا معجبين بهذه التّجربة؛ شخصيًا وسياسيًا، ولكنّ الشخصيّ عادةً ما يتمّ تجاهله وهنا الأزمة كما أراها، بتجاهُلِ المسارات الشّخصية في النّقاش، وهذا ما أحاول الإشارة إليه والتعلّم منه عبر هذه التدوينة من خلال نقطتين رئيسيتين: 

أولًا، الديناميكيّات الداخليّة الذكوريّة في فريق متراس التي حسمت خطوة “الكلام الذي يجب قوله”. قد نصف المقال وما جاء فيه وما تبعه بالكثير من مصطلحات العنف والإقصاء والتضليل وغيرها، وهي الأمور “الظاهرة” والعامّة. إلّا أنّ القضايا التي يصعب الحديث عنها في النقد السياسي والنقاشات المجتمعيّة العامّة هي تلك “المغلقة”، التي نعرفها من وراء الكواليس. هذه القضايا توصَف بالعادة بأنها “شخصيّة” أو ليست في لبّ النقاش، إلّا أنّه لا يمكنني أن أتجاهل دورها المركزيّ في التحوّلات المجتمعية والقضايا العامة. 

قد يعزز في ذلك أنّ فلسطين مكانٌ صغير جدًا، وحلقاتها السياسية متداخلة بشكلٍ مفرط، وبالتّالي ينكشف أي شخص منخرط في نقاشات عامة أو أحداث سياسية طبقة أخرى من وراء الكواليس في العادة، لكن يكون من الصعب وضعها على طاولة النقاش وتبقى في إطار الهمس بين الأشخاص المعنيين. لا شكّ أنّ للمسارات الشخصية وديناميكيات العلاقات السلطوية والذكوريّة في مؤسسة أو مجموعة ما، كما يعرّفها المقرّبون من متراس سابقًا، تكون سببًا مباشرًا في لحظات تؤثر على حياة الكثيرين، كما هو الحال مع مقال متراس وقرار نشره، فمجرّد تديّن رجل ذي سلطة وقوّة في فريق الموقع يجرّ فريقًا كاملًا وسياسة تحرير بأكملها وقرارًا يتسبب في الكثير من العنف تجاه فئة من المجتمع. 

ثانيًا، تجاهل فريق الموقع للتواريخ الشخصيّة العميقة والحميميّة مع أشخاص سيتأثّرون (وتأثّروا فعلًا) بشكل مباشر نتيجة نشر هذا المقال. نعرف الموقع وفريقه عزّ المعرفة، وأتخيّل لسان حالهم يقول بأنّها قضية إيديولوجيّة وتغيير في التوجّه السياسيّ، وبأنّ هذه الخطوة أكبر بكثير من بعض المعارف والعلاقات والحسابات الشخصيّة؛ وبرأيي هنا تكمن المشكلة. 

نحن لا نعيش على كوكب آخر، ونعلم تمامًا أن توجّه مقال متراس هو توجّه الغالبية الساحقة من مجتمعنا (بل إنّ الغالبية أقسى وأعنف من توجّه المقال الذي قد يُعتَبَر “خفيفًا”)، إلّا أنّ الأصعب في المقال هو طعننا في الظهر وشرعنة محو تواريخنا الشخصية واعتبارها هامشيّة مقابل “الكلام الذي يجب قوله”، متجاهلين العواقب الصعبة التي ستكون على أشخاص من أصدقائهم وعائلاتهم والمجتمع ككل.

 توالت الرسائل إلى هاتفي يوم نشر المقال، حالة من الغضب والصدمة والخيبة والشتائم وسمت جميع الرسائل، منها ما دعا إلى خطوة للردّ أو للمحاسبة ومنها ما كان مجرّد تفريغ غضب، إلّا أنّ رسالةً واحدةً لن أنساها وتركت أثرًا بي: “ولك مفكروش شو رح يصير بوجوهنا بس نشوف المقال”. كنّا أنا وهذه الصديقة وأشخاص مركزيين في فريق متراس -ساهموا لاحقًا في كتابة ونشر المقال- رفاقًا وأصدقاء نحلم بتغيير العالم، خضنا سويًا مسارات شخصيّة وسياسية في بداية عشريناتنا، تعلّمنا الكثير وكنا نتحدث عن الحب والسياسة وفلسطين و”المثليّة”، وكنا دوائر دعم لبعضنا البعض، قبل أن يخونوا العشرة والصداقة والرفاقيّة.

انضمي لقائمة الاشتراك

*