حلّ الصيف وحلّ معه ضيوفه ومشاويره وفعاليّاته. من ضيوف الصيف زوجة خالي وابنتها قادمتان من الولايات المتحدة بعد انقطاع عن زيارة البلاد لسنوات. قدومهما يفرحني لأنه يفرح أمي، كون زوجة خالي هي الأقرب لها، إلا أنني آخر مرّة رأيتهما من سنوات طويلة ولا تربطنا أي علاقة أو تواصل. تملك زوجة خالي وابنتها جوازات سفر أمريكيّة وبطاقات هويّة خضراء، وبالطبع قدّمتا لتصريح دخول باستخدام موعد طبّي، وطلبت منّي أمي أن اصحبهنّ إلى مشوار في يوم التصريح كون السياقة داخل الكيان مألوفة لي أكثر منها.
اقترحت أمّي أن نذهب في نزهة إلى أحد جبال القدس أو قراها (المهجّرة في الغالب)، واقترحتُ أنا بالمقابل أن نتّجه إلى البحر، وتحديدًا بحر يافا، على اعتبار أنه مشوار أكثر ملاءَمة لدرجات الحرارة العالية، ولاقى اقتراحي حماسًا عاليًا. بعد أسبوع من اقتراحي وحلول يوم التصريح الموعود، أدركت أننا على بعد يومين فقط من بدء “أسبوع الفخر” في تل أبيب، ولا مهرب من أن تستقبلنا في يافا أعلام الفخر وكلّ مظاهره الأخرى تحضيرًا للأسبوع الحافل في المدينة المستعمرة والمسحوقة من جارتها الوحش: تل أبيب.
مع استيعاب تاريخ ذلك اليوم، تذكّرت عندما التقيت بابنة عمتي قبل عامين أو ثلاث بعد مشوار مع أهلها إلى يافا في أسبوع الفخر، حيث شاركتني الغرابة التي أحدثتها مظاهر “الفخر” وما سببتها من شتائم وقرف. تخيّلت أن المشهد نفسه سيتكرر لا محالة، لكن الأنكى في هذه الحالة أن شخصًا مربوطًا في هذه المظاهر موجودًا معهم، وبالتالي سيخلق الوجود هناك غرابة وتوتّرًا لا يريده أحد، سواء أعلّق أي شخص منّا أم لا.
مذ أفصحت للعائلة أجمع عن ميولي الجنسية، أو بالأحرى مذ وصل العائلة الخبر، تغيّرت علاقتي معهم بشكل جذري. لم تنقطع تمامًا ولم تتحوّل إلى مأساة، لكنّها باتت متفجّرة بالتوتّر والغرابة على نحو مستمرّ، كوننا جميعًا نتصرّف وكأن شيئًا لم يكن ولا نتحدّث في الموضوع أبدًا، على الأقلّ أثناء وجودي أنا وأسرتي المصغّرة. كان السيناريو الأكثر رعبًا بالنسبة لي دومًا هو مصادفة أو ملاقاة أي شيء؛ أي ذكر، طرفة، تقرير تلفزيوني، خبر، نميمة، تلميح، أي شيء، يرتبط أو حتّى يمكن تأويله بما يرتبط بالمثلية الجنسية أو الشذوذ أو التشبه بالنساء أو الطنطات أو غيره.
كان المعظم، في الغالب، أذكى من الوقوع في هذا الفخّ، على الأرجح مدفوعين بالرأفة بأمّي وأبي، كيلا يدفعونهم إلى موقف لا يحمدون عليه يتمنّون فيه الاختفاء تمامًا مع ابنهم مصدر عارهم وإحراجهم، وبالتالي لم يحدث هذا الموقف سوى مرّة واحدة قرر فيها عمّي أن يشارك دهشته من انتشار “زواج المثليين” (استخدم هذه الكلمات فعلًا) في وسط عزومة رمضان فيها جمع كبير من البشر. كنت قريب منه ومن موقع المحادثة، وعملت نفسي ميّتًا بطبيعة الحال حتّى تذرّعت بمساعدة أحد الأطفال القريبين بشيء ما حتّى أتمكّن من تغيير موقعي والابتعاد عن المحادثة.
انفجرت هذه الذكريات والمخاوف في رأسي مع إدراك الفترة التي كنّا موجودين فيها وتخيّل ما سنلاقيه في مشوار إلى يافا في هذا الوقت. بدأت محاولات إلغاء الفكرة متذرّعًا بحجج متنوّعة، ما أثار غضب أمي وتعبيرها عن خيبتها نتيجة رجوعي عن وعودي دومًا. بقينا في حالة انتظار لتصريح ابنة خالي من الارتباط المدني لساعات طويلة، حتّى وصلنا إلى ساعات الظهيرة، وفقداننا الأمل في النهاية، وقررنا -مكسوري الخاطر- تغيير الوجهة إلى مشوار إلى رام الله على أمل أن تحصل ابنة خالي على التصريح في يوم آخر، فتنفّست الصعداء.
لطالما يربكني السؤال المتكرر حول إن كانوا أهلي أو عائلتي “بعرفوا عنّي”. من جهة، يعرفون تمام المعرفة، ومن جهة أخرى، لم نتحدّث ولوّ لدقائق عن الأمر، باستثناء بعض جلسات “الطوارئ” التي كنت فيها في ذروة الانكشاف والتهديد، ما اضطرّني للتفكير مع البعض بكيفيّة حمايتي وحماية العائلة أجمع من سمعتي. يتركني هذا الموقع المركّب في حالة من التأهّب والقلق الدائم حول أفراد العائلة: ما رأيه؟ ماذا تفكّر عنّي؟ هل هناك أي احتمال بأن الخبر لم يصله أصلًا (خاصّة أولئك الأبعد الموجودين في أمريكا)؟ هل يمكن أن يصل الإنكار درجة أنّهم عرفوا و”نسوا”؟ هل سيتجرّأ أحد يومًا ما على المواجهة؟ من البطل المغوار من أبناء الأعمام الذي سيتجرّأ على التنكيت على الموضوع للمرّة الأولى بحضوري؟
بعد أسبوعين أو ثلاث من مشوار يافا الذي لم يحصل، أصدر الاستعمار تصريح طبّي لابنة خالي، وقررنَ ثلاثتهنّ زيارة القدس وطلبوا منّي توصيلة فقط هذه المرّة، كون وقتي لا يسمح لي قضاء اليوم معهنّ، ولا حاجة لي أصلًا كون المشوار سهل ومألوف لأمّي. في الطريق، كنّا نرمي النكات حول الزوّادة التي جهّزتها أمي للمشوار -كما هو الحال في كلّ مشوار، بما فيها مطرة ماء معدنيّة اشترتها أمّي من المركز التجاري للمستعمرة القريبة ب100 شيكل، وهو سعر جنوني، تحمل رسمة لفريدا كالو التي لا تعرفها أمي ولم تسمع اسمها في حياتها.
في وسط ضجيج الضحك والتنكيت في السيّارة، شرعت ابنة خالي مرّتين تقول “هيّ لو تعرف…”، وفي كلّ مرّة كانت تُقاطَع بضحكة أو جملة أخرى، ومع كلّ مرّة تقول الجملة ينتابني رعب يدّب في جسدي متخيّلًا أنها ستقول “هي لو تعرف إنو فريدة كالو كانت مثلية ما بتدفع عليها هالقدّ” أو شيء من هذا القبيل. لا أعرف من أين لي بهذه المعلومة وإن كانت صحيحة أصلًا، لكنّ عقلي قرر في تلك اللحظة أن هذا ما ستصرّح به ابنة خالي فجأة. في المرّة الثالثة نجحت ابنة خالي في إكمال جملتها “هيّ لو تعرف فريدا كالو اللي كانت تناضل لتحرير المكسيك إنو صورتها على مطرة ب مول إسرائيلي ب100 شيكل”، فتنفّست الصعداء.