قبل عامين من الآن، كنت جزءًا من تنظيم فعاليّة عامّة في القدس حول قضايا الميول الجنسيّة والهويّة الجندريّة في المدينة، بتنظيم ودعوة من مؤسسة القوس للتعددية الجنسيّة والجندريّة. جاءت الفعالية بعد أشهر قليلة من “هبّة الكرامة” بكلّ ما فيها وما تلاها من أحداث مشتعلة وضعت المدينة في المركز بعد غياب، فكان الحدث -في زمانه ومكانه- ذا ضرورة وأهميّة.
انتهت الفعالية بنجاح كبير على مستوى الحضور والنقاش، لكنّها لم تمرّ. لم يمضِ شهرٌ عليها حتّى بدأت أخبارٌ تنتشرُ حولها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن نافل القول أنّ مُنطلقها كان الاستنكار والذهول والدعوة للعقاب. تصاعد التحريض في ظرف يومين حتّى خرج عن السيطرة، وباتت سهامه موجّهة بالدرجة الأولى إلى المؤسسة التي وفّرت المساحة للحدث أو استضافت مؤسسة القوس ألا وهي مركز يبوس الثقافي، وهي مؤسسة ثقافيّة مقدسيّة عريقة ومعروفة بمساحة كبيرة -نسبيًا- في مركز الشقّ الشرقي من المدينة (شارع الزهراء)، فيها مسرح وقاعات معارض ومقهى ومتجر فنون.
نال مركز يبوس الحصّة الأكبر من الهجوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتّى بدأ ينتقل من تعليقات وفيديوهات الفيسبوك إلى أرض الواقع ليأخذ منحى جسديًا/ فيزيائيًا لولا احتواء الموقف بتكتيكات عدّة، كان أحدها، للأسف، إصدار يبوس بيانًا أقرب ما يكون تبرّؤًا من الحدث، وكان مما جاءَ فيه: “يعمل مركز يبوس الثقافي على تأجير قاعاته ومرافقه للمؤسسات الفلسطيينّة المقدسيّة لتنفيذ نشاطاتها المختلفة بداعي توفير مساحات للمؤسسات، ولا تمثّل هذه الفعاليات بالضرورة وجهة نظر المركز”.
امتلأنا أنا والرفيقات في القوس حينها بالخيبة والغضب، ولم يكن باليد أيّ حيلة، فكانت كلتا المؤسستين تحت مرمى النيران لأيام طويلة وبشكل مستنزِف، ما صعّب الإمكانية للتواصل والتفكير المشترك بآليات الحماية والردّ، أو بالأحرى النجاة. ارتأت يبوس -على ما يبدو- أنّ هذا البيان هو طوق نجاتها في بحر الغضب والتحريض حينها، وتُركنا نحنُ نبحث عن أطواق نجاتنا وحدنا.
مرّ عامان على الحدث وتغيّرت أشياءُ كثيرةٍ خلالها على الصّعيد الشخصيّ وقراءتي للأحداث، وعلى صعيد المؤسسة والمدينة ككل،
بعد مرور عامين على الحدث، وبعد أن تغيّرت أشياءُ كثيرة في حياتي والمؤسسة والقدس، وفي صيفِ هذا العام تحديدًا بدأت تصلُ إلى مسامعنا أنباء عن حدثٍ قريبٍ جدًا في مدينة قريبة جدًا، حيث انتشرت أخبار عن عرض مزعم لفيلم تنظّمه مجموعة “سينمجي” في عمّان، يُقال إنّه حول “علاقة غراميّة بين شابّين”. تنشط سينمجي منذ سنوات في مجال خلق نقاشات نسويّة وكويريّة حول السينما، وتنظّم عروضًا على الأرض وتنتج معرفة على الفضاء الرقمي. تكاثرت الأنباء وتصاعد الغضب وباتت سهام التحريض موجّهة بجزئها الأكبر، مرّة أخرى، نحو المساحة التي كادت أنْ تستضيف الحدث، مساحة ثقافيّة في عمّان هي “جدل للمعرفة والثقافة“.
تصاعد التحريض على جدل، ووصل لمساءلة من الجهات الأمنيّة، فما كان من الأولى سوى إصدار بيان يتبرّأ، مرّة أخرى، من الفعاليّة ومضمونها، ويدّعي عدم معرفتهم بمضمون الفيلم. ممّا جاء في بيان جدل: “ليس هناك لجدل ولفريقه ولمجتمعه أي علاقة بالفعاليّة وتنظيمها. لم يكن لنا أي علم بمضمون الفيلم…”. لم أغضب هذه المرّة.
تغيّرت موقعيّتي في العامين الأخيرين بشكلٍ كبير، أي منذ الأحداث المرتبطة بفعالية القوس حتى الآن، حيث أخذت مسافة من أي عمل تنظيمي نسوي أو كويري على الأرض وحتّى من النقاشات المرتبطة به؛ لأسباب كبيرة على رأسها الاستنزاف التامّ الذي وصلته في الأشهر الأخيرة من تلك الفترة، والتي كانت أحداث هذه الفعالية من أسبابه الرئيسيّة أصلًا.
أثارني بعد مرور هذا الوقت أن أشهد على النقاشات الدائرة حول ما حصل مع “سينمجي” و”جدل” سواء مع أشخاص منخرطين، أو على مسافة من الحدث لكن يحملون مشاعر كثيرة مرتبطة به. كنت أستمع إلى النقاشات المحمومة حول ما حدث في عمّان/ الأردن ولفتني تغيّر نظرتي للأمور كأمر طبيعي نتيجة تغيّر موقعي في المعادلة.
كنت أستشيط غضبًا وأمتلئ بالانكسار في لحظات كهذه، أمّا الآن وأنا أنظر إلى الصورة من مسافة أبعد، مستمعًا إلى أفكار من أشخاص موجودين على النقيضيْنِ بالغضب على “جدل” أو التعاطف معه، أشعر أنني بتُّ أكثر تفهّمًا لخطوات كهذه، التي يمكن أن تكون إمكانية نجاة لهذه المؤسسات في الواقع الصعب الذي نعيشه.
اليوم عندما أقرأ بيان مؤسسة يبوس ، لا أنغمر بالمشاعر الصعبة التي أصابتني في تلك الفترة وما بعدها، فأشعر بالحرج وأتساءل مع نفسي إن أضحيت مساوِمًا و”أقلّ جذريّة” مع التقدّم في العمر والإنهاك على مدار السنوات. إلّا أنّني أتوقّف لحظةً لأدرك أنّه من الطبيعي جدًا أن تتغيّر مشاعري من حينها إلى الآن، فكنت في معمعان العنف أواجه خطرًا حقيقيًا أنا والإطار الذي كنت أنتمي له وأعمل من خلاله، وبالتالي كان من الصعب أن أرى الصورة من الجانب الآخر، وأرى حاجة شُركائنا (يبوس) في ذلك الحين.
أرى الآن أنّ الأهمّ من إصدار البيان من عدمه، وإدانته من عدمها؛ هو التواصل المفتوح والصادق الذي يجب أن نعقده كأطراف في هذه المعادلات الصعبة، فيشارك كلّ طرف موقعه ووضعه، ونناقش سويًا إمكانيات درء الخطر وتقليله، وبالتالي وإن وصل بعض الأطراف إلى خطوات مؤسفة مثل إصدار بيانات “تتبرّأ” من الفعاليات أو تعوّم الموضوع ولا تواجه بشكل مباشرة حوله، سيكون قرار مشترك ومفهوم من الطرف الثاني.
أرى بعد هذه التجارب والتأمّلات أنّه ما من صواب أو خطأ قاطعيْنِ في تلك الأحداث، وما من جدوى لأن نلغي بعضنا البعض مؤسساتٍ ومجموعات في لحظات الأزمات كهذه، ونطلق أحكامًا قاطعة في ذروة الأزمة؛ بل الأهمّ هو أن نحاول قدر الإمكان أن نرى الصورة كاملة وأنْ نسعى لحوارٍ مشترك على الرغم من الافتراق الذي قد ينشأ.