صورة لسارة حجازي. المصدر: http://shorturl.at/tRU28
تقترب هذه الأيّام الذكرى السنويّة الثالثة لانتحار سارة حجازي. هذه التدوينة هي دعوة للصحفيين والنشطاء والمؤسسات والمجموعات النسويّة لإعادة التفكير في تناول قضيّة انتحار سارة، كون الحديث عنها هو بالضرورة حديث عن الانتحار، وبالتالي مجازفة قد تؤول إلى نتائج غير المرجوّة منها.
منذ رحيل سارة حجازي عام 2020، ومع حلول حزيران من كلّ عام، وبالتزامن مع “شهر الفخر”، تضجّ المنصّات الإعلاميّة “البديلة” أو النسويّة أو التي يمكن تصنيفها كمناصِرة للمثليين والترانس بمواد حول سارة وذكرى رحيلها ونموذج النضال -والخسارة- الذي قدّمته. كما تقدم مؤسسات أو مجموعات نسويّة وكويريّة على نشر بيانات، والخطوة الأكبر كانت العام الماضي بإطلاق ونشر موقع إلكتروني كامل ومتخصص “يجمع إنتاجها الفكري وما كتب عنها”.
من الواضح أنّ جزءًا كبيرًا من هذه الجهود يتعلّق بإبقاء ذكرى سارة ومساهماتها السياسيّة خالدة، إلّا أنّه من الواضح أيضًا أنّها باتت أداة للمناصرة حول قضايا الميول الجنسيّة والهويّة الجندريّة ورفع الوعي حول الألم والنتائج التي قد يؤدّيها العنف وملاحقة السلطات، ألا وهو الانتحار.
قد تساهم هذه الجهود بالتنبيه إلى خطر القمع والعنف، وهي منطلقة من دوافع سامية دون أيّ شكّ، لكنْ لا بدّ من التوقّف قليلًا عند خطورتها وإعادة التفكير بها وبكيفيّة تنفيذها، وذلك من مُنطلقين مترابطين جدًا وهما:
أولًا، كما ذكرت، الحديث عن سارة حجازي وذكراها هو بالضرورة حديث عن الانتحار، ما قد يستثير مشاعر صعبة ومؤلمة وخطيرة للكثير من الأشخاص، وتحديدًا من الترانس والمثليين. يصارع الكثير منّا أفكارًا انتحاريّة مستمرّة، ويأخذها الكثير منّا إلى حيّز التجربة والتنفيذ. وبالتالي من الصعب والثقيل جدًا أن نتعرّض في كلّ عام لكمٍّ كبيرٍ من المحتوى الذي يضع الانتحار وفكرته والتوعية حوله في وجوهنا بالطريقة التي يحصل فيها. من الجدير بنا أن نفكّر أكثر بالأثر النفسي علينا وعلى الكثير من الأشخاص الترانس والمثليين عند التعرّض لهذه الصور والعناوين.
ثانيًا، نماذج الحياة المرئيّة والعلنيّة لأشخاص ترانس ومثليين عرب قليلة ومحدودة (على الرغم من التغيّير الهائل في السنوات الأخيرة مع مواقع التواصل الاجتماعي، مع أنّها في الغالب لأشخاص موجودين في الخارج/المنفى)، وتحوّلت سارة حجازي في السنوات الأخيرة لأبرز وأشهر هذه النماذج على الإطلاق، سواء بين أشخاص ترانس ومثليين أو بالمجمل. تحمل ممارسات إحياء الذكرى والتغطية المستمرّة ونشر رسالة انتحار سارة كلّ عام (وهي الأخطر على الإطلاق) ضمنيًا مقولة خطيرة جدًا لأشخاصٍ محدودي الانكشاف على نماذج مثليّة علنيّة ومرئيّة، ويغدو نموذج سارة هو النموذج الأقرب والأسهل لهنّ.
تتعامل المنظومة التي نعيش فيها مع الحيوات الشاذّة (الترانس، المثليين، النساء الشرموطات، وغيرها) على أنّها لا تستحقّ الحياة ويجب أن تفنى لما تسببه من تهديد على “الحياة الطبيعيّة”. أو في أحسن الأحوال، فهي وإن استحقّت الحياة لن تستطيع إليها سبيلا كونها ستنتهي حتمًا بمرض (نفسي أو جسدي). لطالما ربطت السياسة والأدب والسينما والعائلة والمؤسسات الطبية شذوذنا بالموت والفناء بطرق أو مسارات عدّة، مثل القتل أو الإيدز أو الانتحار طبعًا، وأيّ مجهودات لمحاربة قتلنا المستمرّ في المجتمع لا بدّ أن تنطلق من مقاومة قتلنا المستمرّ.
تقترب الكثير من الجهود ذات النيّة الحسنة للحديث عن سارة حجازي والانتحار من حالة من الرمنَسة (أي جعل أمر ما رومنسيًا والاحتفاء فيه بغير مكانه)، خاصّة مع التركيز الكبير على رسالة وداعها الأخيرة وجملة “ولكنّني أسامح” التي كانت آخر ما كتبت (وهي عظيمة دون شكّ)، وتقديمها كفعل بطولي، وليس أعلى من جرس إنذارٍ من فقداننا لشخص ترانس آخر هذا العام بالانتحار بعد أن كتبت رسالة أخيرة.
ليس هذا حكم على فعل الانتحار أو على سارة أو غيرها وخياراتهنّ، بل هو حكم على التعامل مع خياراتهنّ، وصرخة بأننا لا نريد لأي شخص آخر أن يتركنا ويترك خلفه رسائل أخيرة “مؤثّرة” و”عظيمة”. ليست هذه دعوة إلى إخفاء انتحارنا واكتئابنا اللذينِ تسببت بهما المنظومة، بل دعوة للتفكير أكثر بكيفيّة الخروج من الربط الحتمي مع العنف الذي رسمته المنظومة لنا.
أطلق أصدقاء سارة مع “التحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان” العام الماضي فعاليّة رقميّة بعنوان “نكتب كأننا سارة حجازي“. مع رفضي التام لاختزال سارة وكتاباتها بحدث الانتحار، إلّا أنّ أوّل ما خطر لي -كشخص صارع أفكارًا انتحاريّة لسنواتٍ- عند قراءة عنوان الفعاليّة هو أنّ آخر ما أريده هو أن أكتب كسارة حجازي، ولا أريد لأحد ذلك.
نحن أمام معضلة، فمن جهة من المهمّ وضع موضوع الانتحار لأشخاص ترانس ومثليين على الطاولة مجتمعيًا، لكن فلنبقِ في البال آثارَ ذلك علينا.